خريطة التنافس الدولي والتغلغل الإقليمي فى منطقة القرن الأفريقي

                                                                    عدنان موسي

تمهيد     

انتهى عصر الاستعمار المسلح، وخلصت القارة الإفريقية المظلمة من غيبات الإحتلال العسكري، لكن تكالب ما بعد عصر الإمبريالية لا يزال يلقي بظلاله على تلك القارة، خاصةً منطقة القرن الإفريقي التى تشهد صراعات دولية وإقليمية غير مسبوقة، فى ظل تضارب المصالح الإقتصادية والسياسية والعسكرية بين مختلف الأطراف، وأضحت التطورات الراهنة الناتجة عن تقسيم المنطقة بين مناطق نفوذ القوى المتنافسة تعكس معادلة إقليمية جديدة متمثلة فى خريطة مستجدة من أشكال التحالفات والعلاقات المتشابكة، بالتالى تسعى هذه الورقة إلى قراءة تحليلية فى أبعادة وطبيعة خريطة التنافس الدولي والإقليمي فى منطقة القرن الإفريقي، ومن ثم إنعكاس ذلك على مستقبل المنطقة.

أولا: التنافس الدولي على القرن الافريقي

  • الولايات المتحدة

لم تتبلور سياسة أمريكية واضحة تجاه القارة الأفريقية بشكل عام حتى عام 1998، عندما سعت إدارة الرئيس كلنتون إلى تأسيس شراكة أمريكية- أفريقية جديدة لأسباب تتعلق بالثروات والموارد الضخمة بالقارة.[1]وخلال الزيارة التى قام بها وزير الخارجية الأمريكي السابق ” ريكس تيلرسون” إلى أفريقيا، فى مارس 2018، ركزت الزيارة على المراكز الرئيسية المهمة للمصالح الأمريكية، ومن بين خمس دول تضمنتها الزيارة، كانت هناك دولتان من دول القرن الإفريقي ( إثيوبيا وجيبوتى) وهو ما يعزز أهمية تلك المنطقة بالنسبة لواشنطن.

وترتبط الولايات المتحدة بمنطقة القرن الأفريقي بعلاقات استراتيجية ووجود استخباراتى وعسكرية واستثماري، منذ فترة الحرب الباردة، حيث تمتلك واشنطن قاعدة “كامب ليمونير” بالإضافة إلى مقرات قوات الأفريكوم.[2]وتعتبر تلك القاعدة هى الوحيدة المعلنة من قبل واشنطن، إلا أن كافة التقديرات تشير إلى وجود قواعد أمريكية صغيرة منتشرة فى القارة الأفريقية بشكل عام وفى القرن الأفريقي بشكل خاص، حيث يتواجد فى كينيا قاعدتا ميناء “ممبسة” والبحري و”نابلوك”، وفى أثيوبيا تمتلك واشنطن قاعدة عسكرية للطائرات بدون طيار فى منطقة “أربا مينش” منذ 2011، وقد كانت الصومال تضم قاعدتين أمريكيتين فى ميناء البربير، لكن التطورات اللاحقة ادت الى نقل القاعدتين إلى جيبوتي.[3]

  • الصين

تمكنت الصين فى يوليو 2017 من افتتاح أول قاعدة عسكرية خارجية لها فى جيبوتي، وهى القاعدة التى تضم حوالى 10 آلاف جندي فى أولى خطوة نحو تعزيز النفوذ الصيني فى المنطقة، والذى تنظر إليه واشنطن باعتباره التهديد الأكبر للمصالح الأمريكية، خاصة إذا أضيف له الدور المتنامي للقوة الروسية فى المنطقة.

واعتمدت الاستراتيجية الصينية فى منطقة القرن الأفريقي على التغلغل الاقتصادي بشكل خاص واغداق المساعدات والتعاون الاقتصادي مع دول المنطقة خاصة منذ إنشاء منتدي التعاون الصيني الأفريقي فى عام 2000، كما أعطت بكين الأهمية لعلاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع دول المنطقة على أسس أيديولوجية “التضامن بين دول العالم الثالث” كمقدمة للدور العسكري الراهن.

وخلال السنوات الخمس الماضية، ازدادت مبيعات الصين من الأسلحة إلى أفريقيا بنسبة 55 % وتضاعفت حصتها في سوق الأسلحة الأفريقية إلى 17 %، متجاوزة بذلك الولايات المتحدة، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.[4]كما استطاعت بكين تعزيز نفوذها فى منطقة القرن الأفريقي من خلال ربطها بمشروع “الحزام والطريق” والذى يستهدف إقامة ممر تجاري وبحري يمر من باب المندب.

  • أوروبا

 بعد استقلال جيبوتي عن فرنسا لم تنفصل الأخيرة عنها بشكل كلي، بل ظلت العلاقات التى تربط البلدين قائمة، حيث تم توقيع اتفاقية عسكرية لضمان تواجد عسكري قوامه ما بين 3800- 4500 جندي، ثم تقلص العدد الى حوالى 1500 جندي بعد ذلك، فى القاعدة العسكرية لباريس والتى تعد أهم قاعدة فرنسية فى القارة الأفريقية.[5]

ومؤخراً بدأت بقية القوى الأوروبية تدرك الأهمية الاستراتيجية التى تمتلكها منطقة القرن الافريقي، والتى انعكست فى زيارة رئيس الوزراء الايطالى الى إثيوبيا وإريتريا فى منتصف اكتوبر 2018، كما كشفت زيارة وزير التنمية والتعاون الدولي الألماني إلى إريتريا فى أغسطس 2018 التطلع الأوروبي الراهن لتعزيز التواجد فى منطقة القرن الأفريقي.[6]

بجانب ذلك، تمتلك اليابان قاعدة لها فى جيبوتى للتعاون فى مجال مكافحة القرصنة، بالإضافة لذك تسعى موسكو إلى تعزيز تواجدها فى منطقة القرن الافريقي من خلال التدخل فى إعادة صياغة العلاقات بين دول المنطقة وتعزيز التعاون الاقتصادى والدبلوماسي مع تلك الدول، بالإضافة إلى التعاون العسكري وإمداد دول القرن بالمساعدات العسكرية اللازمة.

ثانياً: أبعاد وحدود التغلغل الإقليمي فى منطقة القرن الأفريقي

  • إيران: سعت إيران إلى التغلغل فى منطقة القرن الافريقي معتمدة على القوة الناعمة فى بداية الأمر إلى أن وصلت إلى إنشاء القاعدة العسكرية متعددة المهام فى ميناء مصوع الإريتري، يضاف لذلك اعتماد طهران على دفع حركة التشيع فى منطقة القرن الأفريقي (خاصة إثيوبيا) واستغلال العامل الديني من خلال دور السفارات والمراكز الثقافية. وظلت أريتريا حليفة لإيران فى المنطقة لفترة طويلة، فقد تم التقارب بين الطرفين بعدما أتهمت أسمرة إسرائيل بدعم أثيوبيا فى الحرب المندلعة بين الجانبيين لذا عمدت اريتريا إلى التقارب مع إيران لتحقيق التوازن، الا ان انضمام اسمرة الى عاصفة الحزم كانت الاعلان عن فك الترابط بين الجانبيين، تمهيدا لتوازنات جديدة فى العلاقات. فى المقابل كشف تقرير أممي مؤخراً عن تقارب إيراني مع حركة الشباب الإرهابية فى الصومال، من خلال مساعدات ايرانية فى تهريب الفحم الذى يعد مصدر التمويل الأول للحركة.
  • قطر: الدور القطري حاضر بقوة فى منطقة القرن الأفريقي، اذ اعتمد الدوحة على الدور الدبلوماسي القوي فى الوساطة بين دول المنطقة فى الصراعات البينية، مع الدعم المادي للحركات الاسلامية والارهابية فى تلك المنطقة على غرار علاقاتها بحركة الشباب فى الصومال، فتحركات سياسة الدوحة فى الصومال تمثل النموذج الأبرز، خاصةً مع فتح المجال أمام رجل قطر فى الصومال “فهد ياسين” نائب رئيس وكالة الاستخبارات والأمن القومي فى الصومال ومدير المكتب الرئاسي لـ”فرماجو”، بعدما أعلن مدير وكالة الاستخبارات الصومالية ” حسين عثمان حسين” استقالته وبالتالى أصبح الباب مفتوحا أمام تولي فهد ادارة أهم جهاز أمني فى الصومال. ويمكن تفسير تكثيف الجهود القطرية فى تعزيز وجودها فى الصومال إلى تخوف الدوحة من تراجع دورها بعد التقارب الراهن بين اثيوبيا واريتريا، وتصاعد الدور الخليجي (الاماراتي والسعودي بالاساس) فى المنطقة، مع وجود مؤشرات تعكس الجنوح نحو خريطة جديدة للعلاقات والموازين فى منطقة القرن، بالتالى تسعي قطر لضمان دور لها فى المرحلة المقبلة.
  • تركيا: فى خضم تنافس الأدوار فى منطقة القرن الأفريقي، يبرز الدور التركي المتنامي، على الصعيد الإقتصادي والدبلوماسي وكذلك العسكري، فالسياسة الثقافية (بالأساس) للدولة التركية لعبت دوراً كبيراً فى التغلغل داخل مجتمعات تلك المنطقة، مما أنتج اتفاقيات ضخمة بين أنقرة وحكومات إثيوبيا وإريتريا فضلا عن السودان، التى تمخض عنها الإتفاق على سيطرة تركية على جزيرة سواكن السودانية بدعوى إعادة تأهيلها، وتوجت التحركات التركية فى المنطقة من خلال إنشاء اكبر قاعدة عسكرية تركية فى الصومال، فى سبتمبر 2017. واشار تقرير لرويترز فى مايو 2018 أن تركيا بدأت استثمارات ضخمة فى الصومال، كما ادارت شركة تركية ميناء مقديشيو منذ عام 2014. يضاف لذلك سعى أنقرة الى تعظيم نفوذها في منطقة القرن الافريقي من خلال بوابة جيبوتي، فلا تزال المفاوضات مستمرة بين الطرفين لإقامة قاعدة عسكرية تركية في جيبوتي، يضاف لذلك قيام تركيا بإنشاء منطقة تجارية حرة في جيبوتي، كما أن أنقرة تغلغلت في الداخل الجيبوتي من خلال المساعدات التي تقدمها في مجال البنية التحتية، كالمشاركة في بناء سد حنبولي.
  • إسرائيل: تعمل اسرائيل على تعزيز تواجدها فى تلك المنطقة الاستراتيجية، خاصة من خلال بوابة إثيوبيا، كما تتواجد إسرائيل فى جزيرتي “دهلك” و “فاطمة” الاريتريتين، كما تمتلك تل ابيب مراكز رصد متعددة على البحر الاحمر تستهدف دول المنطقة، حيث تقيم فى “دهلك” أكبر قاعدة عسكرية لها.
  • السعودية والإمارات: تمثل منطقة القرن الافريقي أهمية خاصة بالنسبة لأبو ظبي، والتى تسعي الى تعزيز دورها بشكل كبير عبر شركة “موانئ دبي العالمية” بتوجيه استثمارات كبيرة نحو منطقة القرن الإفريقي منذ فترة التسعينيات، فقد أنشأت ميناء ضخما فى جيبوتي، كما تعمل على آخر في منطقة “أرض الصومال”، كما قامت أبو ظبي بتوقيع عقد ايجار للاستخدام العسكري لميناء عصب الاريتري والمطار الرئيسي. ولعبت الامارات دورا حاسما في توقيع اتفاقية الصداقة والسلام الاثيوبين الارترية ، في تطور يظهر وعيا خليجيا باهمية هذه المنطقة للامن القومي وقربها من مسرح العمليات العسكرية اليمني ومواجهة التغلغل الايراني والتركي في المنطقة .

ثالثاً: مستقبل الدور التنافسي فى منطقة القرن الافريقي

فى إطار المتغيرات التى تشهدها منطقة القرن الإفريقي، والتكالب الدولى والإقليمي عليها، يمكن الإشارة إلى جملة من المؤشرات والدلالات التى تعكس مستقبل الدور التنافسي فى تلك المنطقة، على النحو التالى:

أولا: على الرغم من تعزيز التواجد الصيني فى المنطقة، إلا أنه يصعب الحديث عن منافسة أمريكية – صينية فى منطقة القرن الأفريقي، فالتواجد الصيني يستهدف بالأساس ضمان المصالح الإقتصادية لبكين فى المنطقة، بالإضافة إلى تأمين طريق الحرير “الحزام والطريق”، مقابل السياسة الأمريكية التى تستهدف بالأساس خلق توازنات سياسية وأمنية جديدة فى المنطقة، هدفها تحجيم النفوذ الإيراني والصيني .

ثانياً: هناك دور أوروبي محدود – حتى الآن_ فى المنطقة، فبإستثناء فرنسا، يبقي الدور الأوروبي هامشياً، فى ظل إنكفاء السياسة الأوروبية الراهنة على مشكلاتها الداخلية، أما الزيارة التى قام بها رئيس الوزراء الإيطالي مؤخراً إلى أثيوبيا وإريتريا، فيمكن فهمها فى ضوء التنافس بين باريس وروما، الذى تجاوز الخلافات على مستوى الداخل الأوروبي إلى التنافس على مناطق النفوذ فى شمال ووسط أفريقا، قبل أن ينتقل مؤخراً إلى شرقها، خاصةً مع الأخذ فى الإعتبار التاريخ الاستعماري لكلا الطرفين فى منطقة القرن. أما الدور الروسي فلا يزال محدودا للغاية ولا يتجاوز مرحلة التطور الدبلوماسي فى العلاقات مع تلك الأطراف، فى ظل اهتمامات روسية بمناطق نفوذ أخري.

ثالثاً: التحركات الراهنة فى منطقة القرن الإفريقي تعكس جنوحاً نحو خريطة أمنية وسياسية جديدة فى تلك المنطقة، وإتجاه نحو خلق ائتلافات جديدة، فزيارة وزير خارجية إثيوبيا ونظيره الإريتري إلى الصومال مؤخراً، يعكس ترتيبات محتملة لتدشين حلف ( إثيوبي- إريتري- صومالى) بدعم ( إماراتي – مصري – سعودي) بتنسيق مع الولايات المتحدة الامريكية. يخرج جيبوتي من الحسبان، وذلك بسبب الغضب الأمريكي عليها على إثر السماح للصين بإنشاء قاعدة عسكرية قريبة من نظيرتها الأمريكية، بالإضافة إلى  موقف أبو ظبي المعادي لها كما تم الإشارة إليه بعد انهاء عقد شركة موانيء دبي بصورة تعسفية. لكن يجب الاخذ فى الاعتبار أن الاختراق القطري للدولة الصومالية قد يمثل عائقاً رئيسياً فى استكمال تلك الترتيبات.

[1]https://democraticac.de/?p=37149

[2]http://fikercenter.com//assets/uploads/East-of-Africa.pdf

[3]https://nl.hideproxy.me/go.php?u=NJnI9lxyFkdcLy2xHRQdKnKxnKcrRy8GlMN6oOvP4ZvlkQa%2BWJx6J6M6ns0dLB0gCtv8anhG5dqbYIAaGjo4IhUfj4Hj4cEuzK562v96i9vpK2zQNaNiE%2BZQN2LccMdXYAa1lw%2BuPIo10UcBXERDbuDc2SjX03YT4go2ajfHAxKhOivXSbJ8Qd4Y3pJ%2F%2BLXjzf5ox6ykDrgzXg7NVp572T%2BK92O3kgHUhDuKsoFited3jZDMF33r2AWfH13e7OwwrnUcw%2FhMCCmU89DX8W6JpEDrrzoQ4xQHhuTLWS8%3D&b=5&f=norefer

[4]https://www.washingtonpost.com/opinions/global-opinions/china-is-challenging-the-us-in-the-horn-of-africa–and-washington-is-silent/2018/09/27/6b5b5d10-c288-11e8-a1f0-a4051b6ad114_story.html?utm_term=.d07dabf90412

[5]https://nl.hideproxy.me/go.php?u=NJnI9lxyFkdcLy2xHRQdKnKxnKcrRy8GlMN6oOvP4ZvlkQa%2BWJx6J6M6ns0dLB0gCtv8anhG5dqbYIAaGjo4IhUfj4Hj4cEuzK562v96i9vpK2zQNaNiE%2BZQN2LccMdXYAa1lw%2BuPIo10UcBXERDbuDc2SjX03YT4go2ajfHAxKhOivXSbJ8Qd4Y3pJ%2F%2BLXjzf5ox6ykDrgzXg7NVp572T%2BK92O3kgHUhDuKsoFited3jZDMF33r2AWfH13e7OwwrnUcw%2FhMCCmU89DX8W6JpEDrrzoQ4xQHhuTLWS8%3D&b=5&f=norefer

[6]http://fikercenter.com//assets/uploads/East-of-Africa.pdf

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.